نهاية المسيرة عند "باب الرواح" الذي بقي شامخا بعد رواح الكل إلى بيته
عدت من مسيرة التضامن مع أهلنا في غزة. كانت صلةَ ألم وليس رحم، رمزية من بعيد، بعيد. كان قصدي المبطنُ والبسيطُ، والطفولي إلى حد بعيد، أن يراها أهلنا في غزة على شاشات تلفازهم، إن تبقت لهم تلفزات أو كهرباء يشغلها، لتعطيهم دفعة نفسية، أننا في المغرب الأقصى معهم، نؤيدهم، نحس بهم، نحس بحصارهم، نغضب لغضبهم، نحزن لحزنهم، نبكي لبكائهم. ولكن المسيرة انتهت، وسرعان ما...فعُدت أدراجي إلى البيت.
وكما يقال " ما مضى من عمرك حلم " فقد خلفتُ المسيرة وراء ظهري، تكتنفها في مخيلتي غمامة كغمامة حلم، وكانت رجلاي تحملاني مثقلتان كثقل رجْلَيْ حالم لا تطاوعانه في جري ولا مشي. كنت أدب فقط على الأرض. إلى أين؟ إلى البيت لأكمل " مقاومة التفرج " أمام التلفاز، مقاومة عَدِّ الشهداء... مقاومة ًهي من أعمال القلب والقلبِ فقط، إن كان للقلب عمل.
المسيرة من أساسها رمزية. لأنها لم تنتزع من السلطة انتزاعا، بل هي مسيرة منحتها السلطة، وحددت لها مسارها الذي لا يجب أن تتجاوزه وإلا كان مصيرها مصيرا آخر. ولكن على الأقل، نحن أحسن حالا ممن لم تمنح له حتى هاته الفرصة لينفس من احتقانه، بل رأيناه في الفضائيات تتبعه هراوات الشرطة في بلده وخراطيم المياه، "تزمزمه" "زمزمة " عنيفة ونحن في أيام عاشوراء...
هل أبرأتُ ذمتي حين شاركت في المسيرة الممنوحة؟ هل أبرأنا ذمتنا معشر الغاضبين، المحتشدين، الهاتفين، الصارخين بالموت لإسرائيل، والنصر للمقاومة؟
كم كنت أود لو جلستِ الحشود كلها في الشارع الكبير، وقام فينا رجل واحد مومن، بمكبر صوت، وأخذ يدعو على عدونا دعاء بليغا، كتلك الأدعية التي تبثها قناة المنار اللبنانية والتي يسمونها بالصحيفة السجادية، نسبة إلى الإمام زين العابدين السجاد، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لا نعلم صحة نسبة تلك الأدعية ولكنها جميلة وبليغة ومؤثرة، ولست شيعيا، ورضي الله عن آل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.) كنت أود أن يدعو بها ونحن نؤمن على دعائه ونبكي على الله عز وجل، كما رأيت يوما في إحدى مظاهرات ماليزيا أو اندونيسيا لست أذكر. حيث كان يعم جو من الخشوع والتوجه إلى الله والإنابة إليه واستنصاره على العدو الظاهر والخفي. كنت أود أن تكون المظاهرة كصلاة استسقاء نخشع فيها لله ونتوب توبة جماعية عسى أن يرفع عنا ظلم الظالمين، لأنه ما حل بنا وما تداعت الأمم على قصعتنا إلا من ظلمنا لأنفسنا ولبعضنا. لكن الشعارات الغاضبة كانت طاغية. شعارات منها الغث ومنها السمين، تعكس أطياف المشهد السياسي المغربي المتشرذم السائر لغير وجهة.
عدت أدراجي أفكر فيما يمكن أن أفعله الآن، هنا. ماذا يمكن أن أفعله؟ المسيرة لا تكفي. العدو يقصف، يدمر، يجتاح. "المجتمع الدولي" يريد إسرائيل أن تقضي على غزة في أقرب وقت ممكن، وتخلق أمرا واقعا آخر في لمحة البرق. الأنظمة العربية صامتة. حتى قمم الشجب انتهت، وماتت موتا سريريا. وماذا يمكنني أن أفعل أنا القليل الصغير المهمل في هذا العالم الذي لا يؤمن إلا بالقوة والبطش والجبروت. هل أذهب مباشرة وأتمدد وأنام لأحلم بفرج قريب. أو أحلم حلم يقظة، أنني "دوق فليد" عندي " جرين-دايزر" وأهجم به على تل أبيب وأمسحها من الخريطة مسحا... ما العمل؟
*****